ستكون للعدوان الوحشي الصهيوني على غزة نتائج سياسية واستراتيجية بعيدة الأمد على مستقبل الأوضاع في المنطقة ومصير القضية الفلسطينية.
فلقد أدهش الكثيرين ذلك القدر الهائل من الوحشية والعدوانية الذي استخدمته آلة الحرب الصهيونية ضد سكان مدنيين في غزة، ومصدر الدهشة الأول أن إسرائيل تدرك أن جرائمها الوحشية في غزة وهي في معظمها جرائم حرب توجب المساءلة القانونية ومحاكمة مرتكبيها كمجرمي حرب بحسب القانون الدولي واتفاقيات جنيف، وأن هذه الجرائم سيكون من الصعب اخفاؤها أو التستر عليها وخاصة في عصر الفضائيات التلفزيونية التي تنقل على الهواء وبالصوت والصورة بشاعة الهمجية الصهيونية في حرب الأحقاد والابادة التي تشنها ضد أهالي غزة. وبالتالي، فإن السؤال الكبير هو لماذا استخدمت اسرائيل كل هذه الوحشية ضد الفلسطينيين على نحو يعيد زراعة الكراهية والعداء في نفوس كل الفلسطينيين والعرب تجاه اسرائيل؟
هل يكفي القول إن وراء كل هذا القدر من العدوانية والوحشية حسابات تكتيكية أو جزئية للقادة السياسيين في اسرائيل مثل البحث عن مكاسب انتخابية أو محاولة استعادة هيبة الردع للجيش الصهيوني بعد أن تلقى انتكاسة كبيرة بشأن قدراته العسكرية في حرب لبنان عام 2006 ضد "حزب الله"؟
قد تكون تلك هي التفسيرات السريعة والمباشرة لوحشية العدوان الاسرائيلي، ولكن الأمر يبدو من خلال قراءة الواقع السياسي في اسرائيل أخطر من ذلك بكثير.
ولعل من المفيد اظهار الآثار البعيدة الأمد المتوقعة لهذا العدوان الهمجي عبر ايضاح الأمور التالية:أولا: يمكن القول إن كل الآمال المعلقة على التوصل الى تسوية شاملة للصراع العربي ـ الصهيوني، وحل المشكلة الفلسطينية عبر ما يسمى بصيغة "حل الدولتين" أي دولة فلسطينية ودولة اسرائيلية تتعايشان جنبا الى جنب قد تلقت ضربة استباقية اجهاضية عبر العدوان الاسرائيلي على غزة.
فالنخبة السياسية والعسكرية في اسرائيل ليست على استعداد للقبول بتسوية تنتهي باقرار الحدود الدنيا للمطالب والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
وفي واقع الأمر، لا يوجد في اسرائيل حاليا قائد أو زعيم سياسي يتمتع بالشعبية والكاريزما السياسية التي تمكنه من اقناع الجمهور الاسرائيلي بقبول انشاء دولة فلسطينية الى جوار اسرائيل.
وفرسان السباق الانتخابي الاسرائيلي الثلاثة، وهم نتنياهو زعيم حزب الليكود، وتسيبي ليفني زعيمة حزب كاديما، وايهود باراك زعيم حزب العمل لا يمتلكون من الشعبية والجرأة ما يؤهلهم لابرام اتفاق سلام نهائي مع الفلسطينيين.
فنتنياهو زعيم الليكود صاحب تاريخ طويل في مناهضة جهود السلام، وهو ضد ابرام اتفاق سلام مع الفلسطينيين ويعارض صيغة حل الدولتين، ويعتمد نظرية الأمن كمدخل لفرض الشروط الاسرائيلية على المحيط الاقليمي واخضاع الفلسطينيين تحت وطأة التفوق العسكري الاسرائيلي، واذا تمكن من الفوز في الانتخابات في فبراير 2009، وتشكيل الحكومة الاسرائيلية الجديدة بزعامة حزب الليكود فإن مشروع السلام والتسوية في المنطقة سيدخل في فترة غيبوبة والمرجح هو ان يقود نتنياهو اسرائيل الى دخول حروب جديدة في المنطقة ليس أقلها ضد "حزب الله" في لبنان، كما ان احتمالات قيام اسرائيل بضربة ضد المفاعلات النووية الايرانية سوف تتزايد.
أما تسيبي ليفني فأخذت في الفترة الاخيرة في زيادة نبرة تشددها وباتخاذ مواقف سياسية قريبة من مواقف الليكود، ويبدو انها تراهن على الظهور بمظهر القيادة المتشددة لأن ذلك ما يرضي أهواء ورغبات الشارع الاسرائيلي، ومن المرجح ان تقود توجهات حزب كاديما من "يمين الوسط" الى اليمين المتشدد في اسرائيل.
وهذا التوجه يقود الى اضعاف فرص التوصل الى سلام مع الفلسطينيين، خاصة ان ليفني تحدثت عن خطوات خطيرة تهدد باعادة تفجير الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي الى بداياته الاولى عندما أعلنت انه لا مكان لعرب اسرائيل من سكان مناطق 1948 في مستقبل الدولة العبرية التي يجب ان تكون "دولة يهودية خالصة"، وبالتالي فان مصير عرب 48 سيكون هو التهجير الى الضفة وغزة أو الى البلدان العربية المجاورة وخاصة الاردن في اطار التصور الاستراتيجي المستقبلي لاسرائيل من منظور ليفني.
يضاف الى ذلك حداثة تجربة ليفني في الزعامة السياسية والتي أتاحها لها خروج ايهود أولمرت من زعامة حزب كاديما بسبب تورطه في قضايا فساد مالي. ولا تتمتع ليفني بشعبية سياسية تجعلها في مرتبة متقدمة تمكنها من تشكيل حكومة بدون الحاجة الى شراكة مع أحزاب سياسية عديدة، وقد فشلت في تشكيل حكومة بعد استقالة أولمرت بسبب خلافاتها مع حزب "شاس" الديني المتطرف. وبالتالي ولحسابات عديدة لا تبدو ليفني مؤهلة لقيادة اسرائيل الى ابرام تسوية تاريخية سواء مع الفلسطينيين أو العرب.
أما ايهود باراك الذي يأتي ترتيب حزبه "حزب العمل" في المرتبة الثالثة في استطلاعات الرأي العام في اسرائيل حاليا بعد "الليكود"، و"كاديما"، فلم يعد يمتلك القدرة أو الاهلية لقيادة اسرائيل الى مشروع تسوية تاريخية للصراع العربي ــ الاسرائيلي وفي عام 2000 عندما كانت الظروف في المنطقة والعالم أكثر ملاءمة لابرام سلام مع الفلسطينيين، في مؤتمر كامب ديفيد تراجع باراك في اللحظات الأخيرة، وخشي على حياته من ان يلقي مصير أستاذه اسحاق رابين.
فإذا كان باراك في عام 2000 وعندما كان يتمتع بأغلبية مريحة في الكنيست وبشعبية عالية في أوساط الرأي العام لم يستطع اتخاذ قرار السلام، فإنه في الوقت الراهن اضعف كثيرا من الاقدام على ذلك.
بل أصبح رهان باراك هو محاولة تحسين مكانته السياسية عبر الايغال في سياسات التطرف وشن الحروب بأمل استعادة ثقة الناخب الاسرائيلي في قدراته العسكرية كجنرال، ومن هنا وجدنا نزعته الدموية الوحشية في ارتكاب المجازر ضد أهالي غزة.
في ضوء ذلك، يتضح لنا، ان الزعامات السياسية الرئيسية في اسرائيل ليست قادرة سواء أكانت منفردة أو حتى في صورة ائتلافية على امتلاك الجرأة السياسية والتاريخية اللازمة لصنع السلام التاريخي مع الفلسطينيين والعرب.
ثانيا: باتت الدوائر الاستراتيجية في اسرائيل تدرك ان ابرام السلام مع الطرف الفلسطيني لم يعد ممكنا، وذلك في ضوء غياب القيادة الفلسطينية القوية وذات الشعبية القادرة على حماية قرار السلام مع اسرائيل، واقناع غالبية الشعب الفلسطيني بأهمية خيار السلام.
فالدوائر السياسية والاعلامية والاستراتيجية وكما يظهر في الكثير من الأدبيات الاسرائيلية غير مقتنعة بقدرة الرئيس محمود عباس على قيادة الشعب الفلسطيني الى خيار السلام، وانه حتى لو وقع أبومازن اتفاقا للتسوية مع اسرائيل فسوف يلقى معارضات كثيرة له في أوساط الشعب الفلسطيني، وخصوصا بعد تزايد شعبية الفصائل المناهضة للتسوية مثل "حماس" و"الجهاد الاسلامي"، وتراجع شعبية حركة "فتح" وبقية فصائل منظمة التحرير الفلسطينية.
وفي المقابل، فإن حركة "حماس" التي أظهرت انتخابات عام 2006 انها تتمتع بأكبر شعبية في أوساط الفلسطينيين في الضفة وغزة، لا تريد الاعتراف بشرعية وجود اسرائيل انطلاقا مع رؤى عقائدية وأيديولوجية، وتعتبر وجود اسرائيل على أرض فلسطين "غير شرعي"، لهذا، تتحدث "حماس" دوما عن مفهوم "الهدنة" أو حتى "التهدئة" وليس مفهوم التسوية النهائية مع اسرائيل.
وخلال الازمة الاخيرة، أعرب اسماعيل هنية رئيس الحكومة المقالة في غزة عن حلم تحرير أراضي عام 1948، مما يعني عدم الاعتراف بوجود اسرائيل.
ورغم ان هناك تصريحات متناقضة تصدر من حين الى آخر من خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" واسماعيل هنية بإمكانية الاعتراف بوجود اسرائيل في حالة إقامة دولة فلسطين على أراضي الضفة وغزة والقدس الشرقية، أي في حدود عام 1967، إلا أن الموقف السياسي والعقيدي الثابت لحركة حماس هو عدم الاعتراف بوجود اسرائيل، وهو ما تعبر عنه بجلاء دائما تصريحات د.محمود الزهار الذي يعد من الاقطاب المتشددين في حركة "حماس".
وهذا الواقع يجعل قيادات اسرائيل أكثر إدراكا لصعوبة إحلال تسوية نهائية مع الجانب الفلسطيني في ظل عقائدية حركة "حماس"، وتراجع مكانة وشعبية حركة "فتح" ذات الطابع البراجماتي الواقعي التي قادت مسيرة التسوية مع اسرائيل عبر اتفاقيات أوسلو واتفاقية "الاعتراف المتبادل" بين اسرائيل، ومنظمة التحرير الفلسطينية التي وقعها الزعيم الفلسطيني التاريخي ياسر عرفات.
ثالثا: يسود اعتقاد لدى الدوائر الاستراتيجية الاسرائيلية ان بقاء نفوذ وسلطة "حماس" في غزة يعني تكريس قيام دويلة اسلامية باسم "حماستان" على حدود اسرائيل الجنوبية ستكون قاعدة للتطرف ورفض التعايش مع اسرائيل، كما انها ستشكل من المنظور الاسرائيلي قاعدة ابتزاز متقدمة لايران ضد اسرائيل مماثلة لوجود "حزب الله" في جنوب لبنان.
ورغم ان إفشال اسرائيل لمشروع التسوية هو الذي زاد من شعبية وشرعية حركات المقاومة مثل "حماس" فإن اسرائيل لا تفكر إلا في فرض شروطها التعسفية على الجانب الفلسطيني، ولهذا تعتقد هذه الدوائر بضرورة القضاء على كل حركات المقاومة الفلسطينية.
ومن هنا، شنت اسرائيل حربها الوحشية ضد غزة لانها أصبحت قاعدة حركات المقاومة الفلسطينية، وذلك بهدف اضعاف الطرف الفلسطيني واخضاعه للهيمنة الاسرائيلية.
وهو نهج تفكير لا يقود الى تعبيد الطريق الى التسوية بل يعكس التفكير الاسرائيلي البدائي في عدم الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني.
رابعا: يشير كثير من المحللين الى ان درجة الوحشية والهمجية التي شن بها الجيش الاسرائيلي عدوانه على غزة وارتكابه المجازر الارهابية ضد المدنيين من الأطفال والنساء، وقصفه لمقار المنظمات الدولية وخاصة منظمة "الاونروا" بما يعكس سياسة "المحرقة" الكاملة في غزة، انما يعكس قرار استراتيجيا اسرائيل باغتيال عملية السلام مع العرب والفلسطينيين نتيجة القراءة الاسرائيلية التي تقول بعدم قدرة المجتمع الاسرائيلي على تحمل تبعات أو استحقاقات السلام وهو المجتمع الذي نشأ وعاش في بيئة الصراع، ناهيك عن ان الاطماع الصهيونية لا تعرف حدودا.
في هذا السياق يشير الخبير البريطاني المتخصص في شئون الشرق الاوسط باتريك سيل الى ان الأهداف الحقيقية للعدو ان الاسرائيلي في غزة تكمن في القضاء نهائيا على التطلعات الفلسطينية القومية، ليتسنى لاسرائيل الاستمرار في امتصاص أراضي الضفة الغربية من خلال توسيع المستوطنات، كما فعلت دائما منذ عام 1967، وانه قد تتحول الأجزاء الصغيرة المنفصلة عن الضفة الغربية التي لا تستطيع اسرائيل أو لا ترغب في هضمها إلى محميات هادئة، كما يجري التخطيط لاجبار سائر الشعب الفلسطيني على الصمت عبر القمع الوحشي بقوة النيران كما حدث في غزة، أو الرحيل الى الأردن.
ويخلص الخبير البريطاني إلى التأكيد أن خلاصة محرقة غزة هي "أن اسرائيل لن تنهي احتلالها للأراضي الفلسطينية، وهو ما يعتبر مصدر المشكلة كلها، فهي تحاول الاستيلاء على أراضٍ اضافية، وقد دفعها إنكارها للحقوق الفلسطينية وعطشها للتوسع إلى تجاهل كل اعتبارات الشرعية والأخلاق."
ويرى محللون آخرون أن خطة اسرائيل لتصفية القضية الفلسطينية في مرحلة ما بعد العدوان على غزة ستقضي بالعمل على استكمال عملية تهويد القدس الشرقية وزيادة عدد المستوطنات المطلوبة لاستيعاب المهاجرين الجدد، وتوسيع نطاق حدود اسرائيل لتضم أراضي جديدة في الضفة الغربية.
خامسا: يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار تصريحات العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني التي أعرب فيها عن تخوفه من مرحلة ما بعد غزة، وما تخطط له اسرائيل بعد ذلك.
كما يلفت النظر ما كتبه جون بولتون أحد أقطاب المحافظين الجدد الموالين لاسرائيل والمندوب الأميركي السابق لإدارة بوش في الأمم المتحدة حيث استبعد تماما فكرة إقامة دولتين فلسطينية واسرائيلية، واعتبر ان قيام دولة فلسطينية سيجعلها تكون "قاعدة ارهابية" موالية لإيران.
ويبدو أن هذا التفكير أصبح يسيطر على التفكير الاستراتيجي لدوائر صنع القرار في اسرائيل. يضاف إلى ذلك المخاوف المشروعة التي بدأت تنتاب سكان اسرائيل من عرب 48 والذين يشكلون نحو 20% من سكان اسرائيل حاليا، حيث بدأت اتجاهات قوية داخل النخبة السياسية والاستراتيجية في اسرائيل تدعو الى التخلص مما يطلقون عليه "مأزق القنبلة الديموجرافية" لعرب 48، بطردهم وترحيلهم الى خارج الخط الأخضر، واعادة التفكير في الخيار الاردني والحديث مجددا عن كونه يمثل "الوطن البديل" للفلسطينيين، كما تزايدت الدعوات حسبما أشار الى ذلك بولتون الى اعادة الادارة المصرية لقطاع غزة والتخلص من عبئه السكاني.
سادسا: تشير تحليلات اسرائيلية الى ان النخبة السياسية والاستراتيجية في اسرائيل غير مرتاحة لتوجهات ادارة باراك أوباما بالتوجه الى الحوار مع ايران، ومحاولة اعادة احياء وتنشيط عملية السلام بين العرب واسرائيل، وتصريحاته أوباما بضرورة استثمار "المبادرة العربية للسلام".
لهذا سارعت حكومة الثلاثي "أولمرت ــ ليفني ــ باراك" الى استباق تولي أوباما للسلطة في 20 يناير الجاري عبر محاولة ايجاد واقع جديد في غزة وعلى صعيد القضية الفلسطينية يمثل ضربة اجهاضية استباقية عبر تعقيد الأوضاع بما يقود إلى إحداث صعوبات أمام استئناف مسار السلام وخاصة مع الجانب الفلسطيني، بما يساعد اسرائيل على تنفيذ مخططها لتصفية القضية الفلسطينية.
سابعا: يجب الاعتراف أن الانقسام الفلسطيني بين حركتي "حماس"، و"فتح" قد أضر كثيرا بالطموحات الفلسطينية في إقامة الدولة، وقد كانت أقوى أوراق الشعب الفلسطيني على مدار تاريخ صراعه مع اسرائيل هو قدرته على التماسك والحفاظ على الوحدة الوطنية في وجه تحدي الاحتلال الصهيوني.
فقد أخطأت "حماس" في دخولها في صراع على السلطة تحت الاحتلال مع حركة "فتح"، وحيث إن "حماس" كانت ترغب في أن تظل حركة مقاومة وعدم الاعتراف بمسيرة أوسلو واتفاقياتها، فكان يجب ألا تدخل الانتخابات وتسعى للمشاركة في السلطة وان تبقى حركة مقاومة خارج السلطة التي تم تكوينها بمقتضى اتفاقيات أوسلو.
وكان هذا الوضع سيمكنها من الحفاظ على مصداقيتها أمام جمهورها كحركة مقاومة، كما انها كانت ستوفر قاعدة دعم واسناد للمفاوض الفلسطيني أمام اسرائيل لتحسين شروطه التفاوضية.
لكن على الجانب الآخر، حينما فازت "حماس" في الانتخابات وأصبحت مؤهلة لتشكيل الحكومة كان يتعين عليها أن تعيد ترتيب أوراقها، والتعامل بواقعية سياسية مع الوضع الجديد وخاصة في ظل الرفض الاسرائيلي والدولي لقيادة "حماس" للحكومة وهي ترفض الاعتراف باتفاقيات أوسلو وما ترتب عليها.
لكن "حماس" تعاملت مع الموقف بطوباوية وعدم واقعية، وتصورت امكانية أن تفرض تصوراتها ومفاهيمها على الإطار الاقليمي والعالمي، من قبيل فرض هدنة طويلة الأمد مع اسرائيل من دون الاعتراف باسرائيل، وكان هذا أمرا غير ممكن على المدى البعيد أو في الأجل المتوسط وإذا كانت اسرائيل قبلت بفكرة "التهدئة" مرحليا، فقد اقترن ذلك مع فرض حصار على غزة، حيث كانت اسرائيل تتصور ان الحصار سيؤدي الى اسقاط "حماس".
لكن فرض منظور "حماس" للتعامل مع اسرائيل بعدم الاعتراف بها كان سينفجر عاجلا أم آجلا لأنه لا يتسق مع اطار التسوية الواقعية للصراع.
وفي المقابل، فإن حركة "فتح" أخفقت بتصعيد صراعها مع حماس والرهان على الجانبين الاسرائيلي والامريكي بامكانية أن يسمحا باقامة دولة فلسطينية وخاصة بعد أن أحكمت حماس سيطرتها على قطاع غزة.
فقد ظل أبومازن يفاوض أولمرت من موقع ضعف نتيجة انقسام الجبهة الفلسطينية الداخلية، واستثمر أولمرت المفاوضات لتلافي الانتقادات الدولية بشأن عرقلة عملية السلام، وفي ذات الوقت الاستمرار في توسيع المخططات الاستيطانية في الضفة الغربية.
وكانت المحصلة ان انتهت وعود بوش بإقامة الدولة الفلسطينيةإلى لا شيء لأن ادارة بوش لم تكن مستعدة لممارسة أي ضغوط على اسرائيل، بل قدمت لها دعما مطلقا لا يقبل أي انتقاد لاسرائيل، وفي ذات الوقت سلمت لاسرائيل ملف التسوية كاملا لتفرض ما تشاءه وما تراه يخدم تحقيق أمن اسرائيل.
ومن هنا، فقد كان رهان فريق أبومازن على التوصل الى تسوية مع اسرائيل في ظل الانقسام الفلسطيني بمثابة رهان على الأوهام والسراب، وأدى الى اضعاف موقف القضية الفلسطينية داخليا وعربيا ودوليا، فلم تكن القضية الفلسطينية في موقف حالك على مدى تاريخها كما هو الحال عليه الآن، وعندما أدركت سلطة أبومازن مخاطر الانقسام الفلسطيني وبدأت التجاوب مع مساعي تحقيق المصالحة الفلسطينية، كانت المفاجأة ان "حماس" نفسها أخطأت بتعطيل مسار المصالحة، ورفضت الحوار الوطني على قاعدة مبادئ ورقة المصالحة التي صاغتها الوساطة المصرية، وكان ذلك خطأ فادحا لحركة "حماس" قاد الى رفضها بعد ذلك تجديد التهدئة بما مكن إسرائيل من الانقضاض على قطاع غزة بهذه الصورة التدميرية الوحشية غير المسبوقة.
ثامنا: إن التحدي الذي يواجه الفلسطينيين في الوقت الراهن هو المسارعة الى استثمار قرار مجلس الأمن بوقف العدوان الاسرائيلي على غزة، فليس مطلوبا تقديم مزيد من التضحيات من أجل الوصول في النهاية الى نتائج كارثية.
فموازين القوى العسكرية لن تمكن حركة "حماس" من تحقيق انتصار حاسم على اسرائيل.
وبالتالي فمن المهم الانتباه الى المخططات الاسرائيلية الكبرى الرامية الى تصفية القضية الفلسطينية، واضاعة أحلام الشعب الفلسطيني في اقامة الدولة، فهناك حاجة ماسة الى سرعة استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، واقفال صفحة المنافسات الضيقة بين حركتي "حماس"، و"فتح" والاتفاق على برنامج سياسي مشترك لكيفية إدارة الصراع مع اسرائيل لأن استمرار الانقسام الفلسطيني سيوفر الارضية والذرائع لاسرائيل للتهرب من عملية السلام وتنفيد "الاجندة الخفية" التي تستعيد مخططات "الترانسفير"، و"الوطن البديل" والقاء عبء قطاع غزة على مصر.
لكن هذا يقتضي أن ترتفع القيادات الفلسطينية في كل الفصائل الى مستوى المسئولية التاريخية، وتنهي انقساماتها وخلافاتها وتتوحد سياسيا في مواجهة مخططات اسرائيل لتصفية القضية.
وهنا، تقع مسئولية كبيرة على الدول العربية التي يجب ألا تستخدم الانقسامات الفلسطينية ذريعة للتخلص من مسئولياتها القومية والدينية والأخلاقية والسياسية والتاريخية تجاه قضية فلسطين.
بل يجب على الاطراف العربية ممارسة ضغوطها لوضع حد لتغول آلة الحرب الصهيونية و خاصة في الحرب الوحشية ضد قطاع غزة، وفي المقابل العمل بكل قوة لاستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، وان يكون عنوان السياسة العربية في المرحلة القادمة هو العمل الجماعي المخلص للتصدي للمخططات الصهيونية الرامية الى تصفية القضية الفلسطينية وإهدار حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق